لا تُروى الطفولة في غزة كما تُروى في بقية العالم، تحت الخيام، وبين أنقاض البيوت، يعيش أطفال فقدوا ليس فقط منازلهم ومدارسهم، بل فقدوا أيضًا أحلامهم الأولى وذكرياتهم البريئة.
الحرب هنا لا تقتل الأجساد فحسب، بل تُصادر الطفولة، وتترك جيلًا كاملًا يحمل على أكتافه ذاكرة مشروخة وأحلامًا معلقة في الهواء.
أطفال غزة في الخيام: الطفولة تحت الحصار والنزوح
لا تنام الطفولة في غرف دافئة، ولا تستيقظ على صوت المنبه للذهاب إلى المدرسة، بل تبدأ يومها على أرض خيمة مهترئة، وتعيش تفاصيلها بين الحصار والقصف والخوف من المجهول.
أطفال غزة في الخيام ليسوا لاجئين في أرض غريبة، بل نازحين داخل وطنهم، حُرموا من حقهم في الأمان والتعليم، ووجدوا أنفسهم فجأة محاطين بالبرد والفقر وذاكرة لا تشبه طفولتهم.
يكبر هؤلاء الأطفال في مساحة ضيقة لا تتّسع لأحلامهم، يعيشون وسط ازدحام لا يتيح لهم أي خصوصية، ولا حتى فسحة للهدوء أو التأمل، أصوات البكاء، وحكايات الفقد، وهمهمات التعب، كلها تحيط بهم منذ لحظة استيقاظهم وحتى نومهم المضطرب.
بعضهم يحلم بسرير نظيف، أو حقيبة مدرسية، أو حتى ركن صغير من الأرض يرسم عليه بالحجارة أو يرسم فيه أحلامه على الورق.
المدارس، إن وُجدت، غالبًا ما تكون بعيدة عنهم، أو غير مؤهلة، أو تتحوّل إلى مراكز إيواء، ويتعذر على كثير منهم الاستمرار في التعليم.
ومع استمرار الحصار والفقر، تُدفع العائلات إلى تفضيل لقمة العيش على الحقيبة المدرسية، فيتسرب الأطفال من التعليم، ويُجبر بعضهم على العمل في سن مبكرة، حاملين فوق أكتافهم مسؤوليات لا تشبه أعمارهم.
أما الجرح الأعمق، فهو ما لا يُرى، الخوف المزمن، اضطرابات النوم، الصمت الطويل، ونظرات التيه، كلّها أعراض لآثار نفسية عميقة، الحرب لا تترك في الأطفال جروحًا جسدية فحسب، بل تخدش أرواحهم بصمت، وتسرق منهم الجزء الأجمل من العمر، وهو الطفولة.
أطفال غزة بحاجة إلى شعور بالأمان، إلى فرصة لعيش سنواتهم الأولى بسلام لا تحكمه الطائرات ولا الخيام، إنهم بحاجة إلى من يرى فيهم ما وراء المأساة: بشرًا، وأحلامًا، ومستقبلاً يجب أن نحميه.
الخيمة بدل البيت: واقع قاسٍ لا يرحم البراءة
الحرب لا تطرق الباب حين تدخل، إنها تقتحم كل شيء، حتى الأحلام الصغيرة، إذ سرعان ما تأتي موجة أخرى من القصف فتقاطع دموعهم، أو صرخة أمّ تبحث عن صغيرها تحت الأنقاض.
يلعبون بأعواد الخشب والمعدن الصدئ، يركضون حفاة بين الحجارة المتناثرة، يتبادلون قطع الخبز الجاف، ويضحكون أحيانًا — نعم، يضحكون — فهكذا تصر الطفولة على البقاء، ولو بين أنقاض الموت.
ليس سهلًا أن تستبدل غرفة طفلك بخيمة، أو أن تشرح له لماذا لم تعد له ألعاب، ليس سهلًا أن تجيب على سؤال: “متى سنرجع؟”، وأنت لا تملك حتى وعدًا بوجود غدٍ. في الخيمة، لا خصوصية، لا دفء، لا أمان.
كل شيء مؤقت: الطعام، الأمل، الحياة، الأطفال يرسمون على التراب، يحكون القصص لبعضهم عن مدارسهم القديمة، عن أصدقائهم الذين “ذهبوا إلى السماء”، وعن غرفهم التي كانت ذات مرة تُغلق بالمفتاح.
الحرب سرقت طفولتهم، لكنها لم تقتلها تمامًا، هناك ضوء صغير في عيونهم، مقاومة فطرية للانكسار، الخيمة ليست بيتًا، لكنّها الآن كل ما لديهم، والألعاب ليست سوى خيال، لكنه يكفي ليمنحهم بعض الطمأنينة في قلب العاصفة.
حين تنتهي الحرب، إن انتهت، لن يكون البناء بالأحجار فقط، بل سيحتاجون سنوات من الرعاية، من الاستماع، من الاحتضان، سيحتاجون أن يستعيدوا أنفسهم من جديد، لأن ما فُقد ليس فقط الجدران، بل الأمان، والذكريات، والطفولة ذاتها.
ربما لا تعود الغرفة كما كانت، وربما لن تُستعاد الدمية ذات العين الواحدة، لكن إن وجد العالم شجاعة كافية ليصغي إلى بكاء طفل في خيمة، لعلّه يستطيع أن يمنحه ما هو أسمى من البيت: حياة تستحق أن تُعاش.
صدمة نفسية بلا علاج
طفلٌ لم يتجاوز السادسة من عمره، يقفز عند كل صوتٍ مرتفع، يختبئ تحت الطاولة عندما يسمع طرقًا على الباب، طفل آخر توقف عن الكلام، يرفض الطعام، يبلل فراشه ليلًا، ويصرخ في نومه. هذه ليست مشاهد من فيلمٍ عن الحرب، بل واقع يومي لأطفال نشأوا في بيئة أصبح فيها الموت حدثًا متكررًا، والخوف ضيفًا دائمًا.
ليس هناك وقت للشفاء، لا جلسات علاج نفسي، ولا أخصائيين متاحين في الخيام المؤقتة، فالمشهد يغلبه الانشغال بتأمين الماء، الغذاء، والمسكن، أما الجراح الداخلية، فتُركت لتتقيّح في صمت. الأطفال الذين كانوا قبل سنتينيرددون أناشيد المدرسة، باتوا يرددون أسماء الشهداء، تغيرت لغتهم، تغيرت ملامحهم، وتغير معهم شكل الطفولة نفسها.
الآباء والأمهات، المنهكون أصلًا من فقدان الأحبة وعبء النجاة، يجدون أنفسهم عاجزين عن التعامل مع انهيارات أطفالهم.
كيف يشرح أب لابنه أن الطائرة لن تعود الليلة، وهو نفسه لا يصدق ذلك؟ كيف تطمئن أم صغيرها، وهي ترتجف من كل خبر عاجل؟ الواقع يفوق قدرتهم، ومجال الدعم النفسي غائب أو غير متاح.
المنظمات الدولية، رغم جهودها، لا تستطيع تغطية الاحتياجات النفسية لعشرات الآلاف من الأطفال الذين عايشوا القصف، فقدوا أهلهم، أو عاشوا تحت الأنقاض.
بعضهم يرفض الحديث، بعضهم يعيد رسم مشاهد القتل والانفجارات، وبعضهم اختار الصمت كوسيلة دفاع، لكن الخطر لا يكمن في اللحظة، بل في المستقبل.
هؤلاء الأطفال يحملون في داخلهم ألغامًا نفسية قد تنفجر لاحقًا، على شكل عنف، اكتئاب، أو انكسار داخلي عميق.
الصدمة النفسية باتت أثرًا طويل الأمد، هي تشويه للذاكرة، وتغيير لمسار الحياة، والمأساة الكبرى أن هؤلاء الأطفال، وهم الأضعف، لا يجدون يدًا تمتد إليهم، لا مستشفيات متخصصة، لا معالجين، ولا حتى غرف آمنة للبكاء.
في غزة، الألم مزدوج: من الخارج ومن الداخل، وإن كانت إعادة بناء البيوت ضرورة ملحّة، فإن إعادة ترميم نفوس الأطفال لا تقل أهمية، فلا مستقبل يمكن أن يُبنى على أرواح مشروخة، وقلوب صغيرة تحطّمت في صمت.
من سيُعيد بناء أرواحهم؟
هم هناك، أطفالنا، بين الأنقاض والخيام المؤقتة، يحاولون أن يستوعبوا ما يحدث حولهم، في وقت لم يعد فيه الأمان سوى كلمةٍ تتلاشى مع كل انفجار
أصوات الطائرات، صفارات الإنذار، دوي الانفجارات، كلها باتت خلفية لصمتهم المطبق، ولخوفهم الذي لا يفارقهم، يختبئون في الملاجئ ويغلقون أعينهم، لكن الرعب لا يختبئ، بل يملأ صدورهم الصغيرة، ويبني في نفوسهم صدمة لا تندمل.
وسط هذا الخراب، لا يجد الأطفال في غزة من يمد لهم يد العون النفسي، العائلات منهكة، تحاول الحفاظ على ما تبقى، والموارد شحيحة، والخدمات الطبية مهددة، أما دعم الصحة النفسية فهو شبه معدوم، فتُرك الأطفال وحدهم مع جراحهم النفسية التي تزداد عمقًا مع مرور كل يوم.
إنها مأساة داخل مأساة، حيث ينهار الجسد والعقل معًا، وبدون علاج، لا يُعاد بناء أرواحهم في غزة أثناء الحرب، بل تُترك لتتصدع أكثر، تُترك لتتحول تلك الصدمات إلى جروح نفسية عميقة تهدد مستقبلهم.
فمن سيعيد بناء أرواح أطفال غزة؟ من سيمنحهم الدعم والحب وسط الدمار؟ من سيحتضن خوفهم ويمنحهم الأمل في غد أفضل؟ في ظل الحصار، وقصف لا يتوقف، تبدو هذه الأسئلة بلا إجابة، ولكن الصمت عنها ليس خيارًا.
الغرباء، المنظمات، كل العالم مدعو لأن يتوقف لحظة ويستمع إلى أنين أرواح أطفال غزة، لأن إعادة بناء المدينة لن تكتمل بدون إعادة بناء الأطفال الذين يحملون آلامها.
