في قلب غزة، حيث كان يُفترض أن يكون الأمان حقًا طبيعيًا لكل إنسان، تحوّلت الحياة إلى كابوس دائم لا يستثني أحدًا، النزوح القسري، الذي أصبح عنوانًا يوميًا في حياة مئات آلاف الفلسطينيين، يعكس حجم المأساة الإنسانية التي تتفاقم دون أفق للحل.
مع تصاعد وتيرة القصف، لا يجد المواطن الغزي خيارًا سوى الفرار من منزله بحثًا عن مكان أكثر أمانًا – إن وُجد، أسر بأكملها تُجبر على ترك ذكرياتها، منازلها، وكل ما تملك، لتسلك طرقًا محفوفة بالمخاطر نحو المجهول.
النزوح القسري في غزة: واقع مؤلم يعيشه المدنيون يوميًا
يشهد قطاع غزة موجات نزوح قسري متكررة نتيجة التصعيد العسكري المتواصل، حيث يُجبر آلاف المدنيين الفلسطينيين، بينهم نساء وأطفال، على ترك منازلهم والبحث عن مأوى آمن.
النزوح القسري في غزة لم يعد حدثًا طارئًا، بل تحوّل إلى واقع يومي يعيشه السكان تحت القصف ونقص الخدمات الأساسية، يعاني النازحون من انعدام الأمن الغذائي، تدهور الأوضاع الصحية، وانتهاك أبسط حقوق الإنسان.
وتزداد الأزمة تعقيدًا في ظل الحصار المفروض وصمت المجتمع الدولي، مما يجعل الحاجة إلى التدخل الإنساني العاجل أمرًا لا يحتمل التأجيل.
النزوح القسري في قطاع غزة لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة مباشرة لمجموعة من العوامل المترابطة، التي خلقت واقعًا مريرًا، لا يترك مجالًا للمدنيين سوى الهروب من منازلهم.
في كل مرة يتصاعد فيها العدوان، تُفتح أبواب جديدة للمأساة، ويتكرر المشهد: أطفال يُجلَبون من تحت الأنقاض، أمهات يهربن بأيدي فارغة، وعائلات تفترش الأرض بلا مأوى.
أسباب نزوح العائلات في غزة: الحرب والقصف المتواصل
أحد الأسباب الرئيسية للنزوح هو القصف العشوائي أو المركز على المناطق السكنية في العديد من الحالات، استُهدفت منازل مأهولة بالسكان دون إنذار مسبق، أو مع تحذيرات لا تمنح الوقت الكافي للفرار.
سياسة “إفراغ الأحياء” عبر رسائل هاتفية أو قنابل تحذيرية جعلت من الخوف سلاحًا فعالًا لدفع السكان إلى الخروج، هؤلاء السكان لم يتركوا منازلهم طوعًا، بل تحت التهديد المباشر بالقصف، وغالبًا ما يعودون ليجدوا بيوتهم قد دُمرت بالكامل.
إلى جانب القصف، هناك انهيار شبه كامل للبنية التحتية نتيجة الحرب المستمرة والحصار الطويل، انقطاع الكهرباء لساعات طويلة أو بشكل دائم، شح المياه، انعدام الصرف الصحي، وغياب المرافق الصحية، تجعل البقاء في البيوت، حتى غير المستهدفة، أمرًا شبه مستحيل.
سبب آخر هو استهداف المرافق الحيوية والمناطق المدنية مثل المدارس، المساجد، الأسواق، والمستشفيات، ما يفقد السكان الإحساس بأي منطقة آمنة، حتى المناطق التي تُصنّف كملاجئ، كالمدارس التابعة للأونروا، لم تسلم من القصف، وهو ما يجعل النزوح رحلة مستمرة لا يعرف فيها الناس إلى أين يتجهون.
كذلك، فإن القرارات العسكرية الإسرائيلية بإخلاء مناطق كاملة خاصة في شمال غزة أو شرقها تساهم في عمليات نزوح جماعي، في هذه الحالات، يُمنح السكان ساعات فقط لإخلاء مناطقهم، ما يدفع آلاف الأشخاص للفرار مشيًا على الأقدام في ظل أوضاع صحية ونفسية بالغة الصعوبة، وأحيانًا دون وسائل نقل أو مؤن.
من بين الأسباب أيضًا الخوف النفسي الجماعي، الناتج عن التجارب المتكررة من فقدان الأحبّة، وهدم المنازل، والتعرض لصدمات الحرب.
في كثير من الأحيان، لا يحتاج الناس إلى قصف مباشر على منازلهم ليتخذوا قرار النزوح، بل يكفي أن يروا الجيران وقد دُمرت بيوتهم، أو يسمعوا أصوات الطائرات ليلًا فوق رؤوسهم.
ولا يمكن إغفال العامل السياسي، حيث يعيش السكان في ظل حصار خانق حرمهم من الحماية الدولية، وقيّد حركة الأفراد والمساعدات.
ومع تكرار الحروب وغياب أي حلول جذرية، فقد كثير من الناس الثقة في بقاء الأمور على ما هي عليه، فاختاروا الهروب في كل جولة تصعيد بدل انتظار مصير مجهول.
ظروف النازحين في مراكز الإيواء بغزة: غياب مقومات الحياة
مراكز الإيواء في غزة تعاني من اكتظاظ شديد، حيث تُضطر عائلات كثيرة إلى مشاركة غرفة واحدة أو ممرات ضيقة، دون أي خصوصية أو تنظيم.
الأطفال، النساء، كبار السن، والمرضى يعيشون في ظروف صحية كارثية، وسط غياب التهوية المناسبة، وانعدام النظافة، وندرة المواد الصحية، لا تتوفر أسِرّة كافية، وغالبًا ما ينام الناس على الأرض أو على بطانيات رقيقة لا تقي من البرد أو الحشرات.
المياه الصالحة للشرب تكاد تكون معدومة، ويضطر النازحون للاعتماد على كميات محدودة تُجلب عبر شاحنات، لا تكفي احتياجاتهم اليومية.
أما الغذاء، فهو إما غائب تمامًا أو غير كافٍ لتغطية الحد الأدنى من الاحتياجات، ويعتمد في الغالب على تبرعات متقطعة من منظمات الإغاثة أو جهود محلية متواضعة.
الخدمات الطبية داخل مراكز الإيواء شبه منعدمة لا أدوية، لا رعاية طبية مستمرة، لا وجود لطواقم متخصصة للتعامل مع الحالات الطارئة أو المزمنة.
ومع انتشار الأمراض المعدية نتيجة الاكتظاظ وسوء الصرف الصحي، يصبح الخطر أكبر على الفئات الأكثر ضعفًا، مثل الأطفال والحوامل ومرضى السكري والضغط.
أما الحالة النفسية للنازحين فهي لا تقل مأساوية، الخوف المستمر، صدمة فقدان المنازل أو الأحباء، والعيش في بيئة غير إنسانية، كل ذلك يترك آثارًا عميقة في نفوسهم.
لا تتوفر أي خدمات للدعم النفسي أو الاجتماعي، ما يزيد من الشعور بالعجز واليأس، خاصة في ظل غياب أي أفق لحل قريب أو عودة آمنة إلى البيوت.
ورغم أن هذه المراكز تُدار أحيانًا من قبل الأونروا أو مؤسسات محلية، إلا أن الإمكانيات محدودة جدًا، ولا تكفي لتلبية الحد الأدنى من حقوق الإنسان الأساسية.
المساعدات الإنسانية في غزة: الحاجة أكبر من الدعم
في كل مرة تتعرض فيها غزة لعدوان جديد، تتجه أنظار العالم نحو القطاع المحاصر، وتعلو الأصوات المطالِبة بإرسال المساعدات الإنسانية. تصل بعض الشحنات، وتُفتح ممرات إنسانية مؤقتة، وتُرسل فرق إغاثة محدودة.
لكن الواقع على الأرض يُثبت شيئًا واحدًا الحاجة الإنسانية في غزة تفوق بكثير ما يصل من دعم، سواء من حيث الكمية أو القدرة على التوزيع أو الاستمرارية.
منذ بدء التصعيد الأخير، تزايد عدد النازحين بشكل غير مسبوق، وتضخمت الاحتياجات الأساسية للسكان. فالعائلات التي فرت من منازلها لا تملك شيئًا، وتحتاج إلى كل شيء: مأوى، غذاء، مياه نظيفة، أدوية، أغطية، وملابس.
ومع ارتفاع أعداد المصابين والمرضى، بات القطاع الصحي شبه منهار، حيث تعاني المستشفيات من نقص حاد في المعدات الطبية، الأدوية، وحتى الوقود اللازم لتشغيل المولدات في ظل انقطاع الكهرباء المستمر.
المساعدات التي تصل، ورغم أهميتها، لا تغطي سوى نسبة محدودة من الاحتياجات اليومية المتصاعدة، فهناك عقبات كثيرة تحول دون وصول الدعم بشكل فعّال، بدءًا من إغلاق المعابر، ومرورًا بالتفتيشات المعقدة التي تؤخر دخول الشحنات، وانتهاءً بعدم وجود بنية تحتية لوجستية كافية لتوزيع المساعدات داخل مناطق النزوح المتفرقة.
إضافة إلى ذلك، فإن التمويل الدولي لبرامج الإغاثة يعاني من فجوات كبيرة، حيث خفّضت بعض الجهات المانحة مساهماتها، أو علّقتها بسبب اعتبارات سياسية.
هذا يترك المنظمات العاملة في الميدان عاجزة عن تلبية الحد الأدنى من الاحتياجات، ويزيد الضغط على السكان أنفسهم، الذين يلجأون لمبادرات أهلية تطوعية، رغم تواضع الإمكانيات.
وفي ظل الأوضاع الحالية، لا تقتصر الحاجة على المواد الغذائية أو الإمدادات الطبية، بل تمتد إلى احتياجات أكثر عمقًا، مثل خدمات الصحة النفسية، التعليم الطارئ، والمياه والصرف الصحي.
الحقيقة المؤلمة أن المساعدات، مهما بلغت، لن تكون كافية ما دام هناك حصار خانق، وعدوان مستمر، ونزوح متجدد.
فالحل الحقيقي لا يكمن فقط في إرسال المزيد من الشاحنات، بل في وقف أسباب المعاناة من جذورها، ورفع الحصار، وتأمين الحماية الدولية للمدنيين، وفتح المجال أمام حياة طبيعية حرة وكريمة.
دور المجتمع الدولي في وقف النزوح القسري في غزة
مع تفاقم هذه الكارثة الإنسانية، تتجه الأنظار نحو المجتمع الدولي، الذي يُفترض أن يكون الضامن الأول لحماية المدنيين ووقف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، لكن دوره حتى اللحظة لا يزال دون المستوى المطلوب، إن لم يكن غائبًا في بعض الأحيان.
من الناحية القانونية، يتحمل المجتمع الدولي، ممثلاً بالأمم المتحدة ومجلس الأمن والهيئات الحقوقية، مسؤولية واضحة في حماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة، وفقًا لاتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني.
النزوح القسري، الناتج عن القصف العشوائي أو التهديد المباشر لحياة المدنيين، يُعدّ انتهاكًا صارخًا لتلك القوانين، خاصة عندما لا تتوفر ممرات آمنة أو مساعدات كافية.
ورغم توثيق هذه الانتهاكات، فإن ردود الفعل الدولية غالبًا ما تقتصر على بيانات الشجب والتنديد، دون إجراءات عملية توقف النزيف المستمر.
في حالات مشابهة حول العالم، شهدنا تحركات دولية فعّالة، بدءًا من فرض عقوبات، وانتهاءً بإرسال بعثات حماية أو مراقبة ميدانية لكن في حالة غزة، بقيت الخطوات العملية محدودة، بفعل التجاذبات السياسية، ومواقف بعض الدول الكبرى التي تعرقل التوافق الدولي على إجراءات حاسمة.
الأمم المتحدة طالبت مرارًا بوقف فوري لإطلاق النار، وفتح ممرات إنسانية آمنة، لكن هذه المطالب لم تُترجم على الأرض. وفي الوقت نفسه، تواجه منظمات الإغاثة صعوبات في دخول المساعدات، بسبب القيود المفروضة على المعابر، أو بسبب القصف المستمر الذي يهدد حياة الطواقم الإنسانية.
المجتمع الدولي يمتلك أدوات ضغط فعالة، لكنه لا يستخدمها بالشكل المطلوب. فوقف تصدير السلاح، تفعيل آليات المحاسبة الدولية، ودعم الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحصار ورفع الاحتلال، كلها إجراءات يمكن أن تضع حدًا للنزوح القسري في غزة، وتوفر بيئة آمنة تسمح للعائلات بالعودة إلى منازلها.
ما يحتاجه الشعب الفلسطيني في غزة ليس فقط مساعدات طارئة، بل حماية حقيقية وحقوق سياسية وإنسانية مكفولة. والسكوت عن هذا الواقع، أو التعامل معه كأمر اعتيادي، يعني قبولًا ضمنيًا باستمرار المعاناة وتكرارها.
لقد حان الوقت لأن يتحمّل المجتمع الدولي مسؤوليته الأخلاقية والقانونية تجاه غزة، ليس بالكلمات، بل بالأفعال. فكل يوم يمر دون تحرك، يعني مزيدًا من النازحين، ومزيدًا من الأرواح التي تُزهق، ومزيدًا من الأمل الذي يُسحق تحت ركام المنازل والقرارات المؤجلة.