تبدو المفارقة صارخة في غزة: بحرٌ واسع يمتد على مرمى البصر، ولكن مائدة الغزّي فقيرة حتى من أبسط خيرات هذا البحر — السمك.
في منطقة يُفترض أن يكون فيها السمك متاحًا بكثرة، تحوّلت هذه الوجبة إلى حلم صعب المنال، لا يحظى به إلا القلة المقتدرة، بينما باتت غالبية السكان تنظر إليه من بعيد كأمنية موسمية.
البحر في مرمى النيران: الحرب تمنع الصيادين من الإبحار
خلال الحرب، يتحوّل هذا البحر إلى ساحة قتال، ويُحاصر كما تُحاصر اليابسة، وتُمنع الزوارق الصغيرة من مغادرته كما يُمنع الهواء من دخول غرف الإسعاف، لم يعد البحر ملاذًا للصيادين، بل ساحة تهديد دائم ومصدر خطرٍ مميت.
منذ اندلاع الحرب الأخيرة، فرضت قوات الاحتلال الإسرائيلي إغلاقًا بحريًا كاملًا أمام صيادي غزة، لم تكتف بمنع الإبحار، بل استهدفت بشكل مباشر مرافئ الصيادين، ودمرت قواربهم، وأحرقت شباكهم.
كانت الرسالة واضحة: “البحر لم يعد لكم”، الصيادون، الذين يعيشون على رزق اليوم، أصبحوا عاجزين عن العمل، وعن تأمين لقمة عيشهم.
حتى في الأوقات التي يُخفّف فيها الإغلاق مؤقتًا، لا يعني ذلك الأمان، كثير من الصيادين الذين حاولوا الاقتراب من الحدود المسموح بها تعرضوا لإطلاق نار، أو صودرت معداتهم، أو تم احتجازهم لساعات وسط البحر.
البحر أصبح حقل ألغام، ليس فيه ما يضمن العودة سالمًا، حتى ولو خرج الصياد بحثًا عن أقل القليل.
غياب الصيادين عن البحر انعكس مباشرة على الأسواق والمطابخ، الأسماك اختفت تقريبًا، أو أصبحت سلعة نادرة لا تطالها يد المواطن العادي.
الأسعار ارتفعت بشكل كبير، وتراجعت الكمية والجودة. فأبسط وجبة بحرية، كانت جزءًا من ثقافة أهل غزة، أصبحت الآن شبه مستحيلة.
تصطف القوارب على شاطئ غزة مهجورة، وقد لفّها الغبار والصدأ، الشباك التي كانت تُمَدُّ كل صباح باتت مطوية في زوايا المرافئ، وأصحابها يتجمعون قربها بحسرة.
ليست فقط أدوات العمل التي جُمدت، بل توقفت الحياة اليومية، وعلّقت أحلام مئات الأسر التي تعتمد على البحر كمصدر وحيد للعيش.
الحصار لم يقتصر على البرّ، بل امتدّ إلى البحر، وهذه الحقيقة المؤلمة تعني أن الفلسطيني في غزة يُمنع حتى من استثمار ما منحه الله له من طبيعة ومورد.
البحر المحاذي للمدينة ليس مفتوحًا لهم، ولا يملكون قرار الصيد فيه، وهكذا يتحوّل الصيد، الذي كان رمزًا للحرية، إلى جريمة في نظر الاحتلال، وإلى خطر دائم في حساب الصياد الغزي.
أطفال بلا سمك: غياب غذاء أساسي عن أجيال كاملة
السمك لم يكن فقط وجبة على المائدة، بل أحد مكونات النشأة الغزية، يربط الأطفال ببحرهم، بمهن آبائهم، وبذاكرة شعبية متوارثة، اليوم، ومع اشتداد الحصار وتصاعد وتيرة الحروب، يكبر كثير من الأطفال دون أن يعرفوا طعم السمك أو يروه على موائد بيوتهم.
الحرمان من السمك في غزة لم يأتِ فقط بسبب الفقر أو ندرة المال، بل نتيجة مباشرة للحصار البحري الذي يمنع الصيادين من العمل بحرية.
الاحتلال يفرض مناطق صيد ضيقة، ويغلق البحر تمامًا خلال فترات التصعيد، كما يستهدف القوارب ويعتقل الصيادين، مما يؤدي إلى شح المعروض في الأسواق.
هذا النقص ينعكس على قدرة العائلات على توفير وجبة بحرية لأطفالها، الذين يكتفون اليوم بمشاهد الصور أو القصص القديمة عن “أيام كانت فيها الأسماك رخيصة ومتوفرة”.
مع ندرة السمك في الأسواق، ترتفع أسعاره إلى مستويات لا يستطيع معظم الناس الوصول إليها، في مجتمع يعيش فيه أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر، تصبح وجبة السمك ترفًا لا يدخل البيت إلا في حالات نادرة، أو لا يدخله أبدًا.
هذا يعني أن الأطفال لا يحصلون على البروتين البحري الطبيعي، والذي يُعد أساسيًا لنموهم الجسدي والعقلي، ما يفتح الباب على مشكلات تغذوية وصحية طويلة المدى.
أطفال غزة اليوم لا يُحرمون فقط من طعام مفيد، بل من تجربة اجتماعية وثقافية غنية. لم يعودوا يرافقون آباءهم إلى الشاطئ، أو يشاهدون تنظيف السمك وتجهيزه، أو يتعلّمون وصفات الجدّات.
فقد أصبح السمك “شيئًا نادرًا”، لا يتحدث عنه الأطفال إلا كذكرى لدى الكبار، أو شيء يشاهدونه على الإنترنت دون أن يعرفوه عن قرب.
وينما تُركّز المساعدات على الطحين والزيت والبقوليات، يُترك الجانب الغذائي البحري المهم خارج الحسابات. وهكذا، يستمر جيل كامل في النشوء دون هذا العنصر الغذائي، ما ينعكس على توازنهم الغذائي وسلوكهم الغذائي على المدى البعيد.
هذا الواقع يُنذر بظهور مشكلات صحية لدى الأطفال تتعلق بنقص البروتين والأوميغا 3 والفيتامينات المرتبطة بالأطعمة البحرية.
ومع استمرار الحرب والحصار، يبدو أن المسألة لم تعد مؤقتة، بل أزمة مستمرة تهدد النمو الصحي لأجيال متتالية.
المنظمات الإنسانية لا تملأ الفراغ
في ظل الحرب والحصار المستمر على غزة، برزت المنظمات الإنسانية كخط دفاع أخير أمام الجوع وانهيار الحياة اليومية، إلا أن هذه المنظمات، على أهميتها، لا تستطيع ملء الفراغ الغذائي الكامل الذي خلّفته سياسات الاحتلال وقيود الحرب.
فهي تُركّز في الغالب على المساعدات الطارئة، التي تشمل الحبوب، البقول، الزيت، والسكر — مواد أساسية للبقاء، لكنها لا تلبّي الاحتياجات الغذائية المتنوعة، خصوصًا للأطفال.
الأسماك، على سبيل المثال، نادرًا ما تظهر في قوائم المساعدات، فهي تحتاج إلى سلاسل تبريد لا تتوفّر في ظل الانقطاع المزمن للكهرباء، وتخزين ونقل خاص، ناهيك عن الكلفة المرتفعة وصعوبة التوريد بسبب القيود الإسرائيلية.
في مجتمع ساحلي، يُفترض أن يكون السمك فيه غذاءً رئيسيًا، يبدو الأمر مفارقة مؤلمة: سكان يعيشون على حافة البحر، ويُمنعون من صيده، ولا تصلهم مساعدات تحتويه.
المنظمات لا تملك عصًا سحرية، وهي تعمل في ظروف معقّدة، لكنها أيضًا محكومة بسياسات تمويل، وإجراءات طارئة لا تعالج جذور الأزمة.
وهكذا، يبقى ملايين الغزيين، وخاصة الأطفال، محرومين من مصدر غذاء حيوي لا تعوّضه العدس أو الحمص، ومع الوقت، يتحول هذا الحرمان من نقص مؤقت إلى مشكلة صحية وثقافية طويلة المدى.