فلسطين الكبيرة نكبة واحدة مستمرة وليست “نكبة ثانية”
شهدت فلسطين الكبيرة أحداثًا مأسوية وحروبًا متتالية هدفت إلى الاستيلاء الكامل على الأرض عبر سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة التي تُعرّض الشعب الفلسطيني للتسويات غير العادلة.
ومن هذا المنطلق، تصبح تسمية الأحداث بـ”نكبة ثانية” غير معبرة، إذ إن معاناة الفلسطينيين تتجلى في نكبة واحدة مستمرة تتخلل تفاصيل الحياة اليومية.
تجليات النكبة في الحياة اليومية
عندما يمر ابن قرية كابول في الجليل صباحًا ومساءً بجانب القرية المهجورة “ميعار”، فإنه يشهد مشهدًا بصريًا يوميًا يرويه الحاضر رغم أن الكلام لا يستطيع أن ينقل عمق الألم الذي يتركه هذا المشهد في الذاكرة والجسد. هذه الصورة اليومية لا تعكس حادثة منفردة بل تمثل نبض معاناة مستمرة تلاحق كل تفاصيل حياة الفلسطينيين.
النكبة المكانية والوجدانية
على صعيد آخر، تتجسد وحدة النكبة في حالات مثلما يحدث عندما يذهب ابن قرية هربيا لقطف العنب من دالية زرعها جده؛ فهنا تنحفر آثار الاغتراب والقهر في الوجدان، ويصبح لكل قطعة من الأرض قصة تاريخية تحمل وجع الماضي. وكذلك ترى البيوت المهجورة التي تنتظر عودة أهلها، لتشكل سجلاً حيًا على نكبة مكانية وجدانية تمتد عبر الأجيال.
استمرارية الزوال في الأراضي الفلسطينية
تتفاقم الآلام أيضًا في مناطق مثل قطاع غزة، حيث يعيش الأهالي صدمة زوال أحياء بأكملها لم يشهدوها خلال الحروب الخمسة السابقة. إن ما يجري اليوم هو استمرار لسياسات اغتيال الأماكن؛ فالقرى الفلسطينية التي تجاوز عددها المئات أُزيلت تمامًا عن وجه الأرض على مدى عقود طويلة. هذه الممارسات تعكس واقع اغتراب قسري يتجدد مع كل فرصة تتسع فيها تجاوزات الحكومات والإجراءات القانونية التي تمنحها شرعية دولية جزئية، رغم وجود معارضة واستهجان لفظي يتسم بعدم الفاعلية.
في نهاية المطاف، تُظهر الأمثلة الواقعية أن الشعب الفلسطيني لا يعاني من “نكبتين”، بل من نكبة واحدة مستمرة تتجدد في شكل نكبات بصرية، مكانية ووجدانية. هذا الواقع المُستمر يؤكد أن تسمية معاناتهم بـ”نكبة ثانية” تقليل من حجم الألم وتجسيد تجربة مؤلمة تُشكل جزءًا لا يتجزأ من تاريخهم وهويتهم. عبر كل حدث وكل مشهد يومي، يظل النسيج الاجتماعي الفلسطيني شاهداً حيًا على جرح لا يُشفى إلا بالعدالة والمساواة.
حرب 1947-1948 وصراع قطاع غزة: تحليل سياسي وتطور الدور الديني في الصراع الفلسطيني
تُعدُّ الصراعات التي مرت بها فلسطين التاريخية محورًا هامًا لفهم الديناميات السياسية والدينية المستمرة في المنطقة. إذا قارنا حرب 1947-1948 بالصراع الحالي في قطاع غزة، الذي يمتد من عام 2023 إلى 2025، نجد فروقًا جذرية في طبيعة النزاع ومساره السياسي مع بروز مكونات دينية جديدة خلال العقود القادمة.
مقارنة بين حرب 1947-1948 وصراع قطاع غزة 2023-2025
كانت حرب 1947-1948 حربًا قومية على الأرض، إذ شهدت تهجير قسيم كبير من العرب الفلسطينيين دون أن تنجح الحركة الصهيونية في تفريغ فلسطين بالكامل من سكانها الأصليين. في حين أن الصراع الراهن في قطاع غزة يتسم بشراسة أكبر، إلا أن جذوره السياسية تأخذ منحى مختلفًا؛ حيث تحول النقاش مع مرور الزمن إلى البحث عن حل سياسي يتمثل في إقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، أو حتى دعوات لإقامة دولة واحدة تجمع جميع المواطنين بصورة متساوية.
التحول السياسي: من الصراع القومي إلى الحلول السياسية المتنوعة
شهدت السياسة الفلسطينية تحولات نوعية بعد حرب 1947-1948. ففي البداية كان النقاش يدور حول الصراع القومي المباشر بين السكان الأصليين ومحاولات الاحتلال لتغيير الديموغرافيا، بينما مع مرور السنوات أصبح الحديث يتركز على إيجاد حلول سياسية تشمل إما دولة فلسطينية مستقلة أو دولة واحدة كبيرة تضم جميع المواطنين. هذا التحول يعكس نضوج الفكر السياسي وتعدد وجهات النظر حول مستقبل المنطقة.
التأثير الديني المتصاعد في الصراع الفلسطيني
على الرغم من أن المكون الديني في حرب 1948 كان حاضرًا في خلفية الصراع بصورة محدودة، إلا أنه بدأ يظهر بوضوح أكبر مع مرور الزمن. تعود جذور التأثير الديني القوي إلى السبعينيات من القرن الماضي، عندما شهدت السياسة الإسرائيلية صعودًا لتيار اليمين الديني، الذي نال دعمًا من اليمين المسيحي الإنجيلي في أمريكا. هذا التيار، الذي يؤمن بفكرة “الخلاص”، أسهم في إعادة تشكيل قواعد الصراع السياسي والديني في المنطقة.
العلاقة بين اليمين المسيحي الإنجيلي واليمين المسيحي اليهودي
يتميز كلا التيارين – اليمين المسيحي الإنجيلي في أمريكا واليمين المسيحي اليهودي – بتأييدهما لفكرة “الخلاص” المسيحي ضمن إطار حركة يمينية محافظة. تدعو كل من الحركتين إلى تحقيق رؤية دينية وسياسية محددة تؤثر على السياسات الإسرائيلية والخطاب السياسي العالمي، مما يجعل تأثيرهما يمتد إلى مستويات استراتيجية وتكتيكية في المنطقة.
تعكس مقارنة حرب 1947-1948 بالصراع الحالي في قطاع غزة تحولًا عميقًا في طبيعة الصراع الفلسطيني، حيث انتقل من حرب قومية على الأرض إلى مناظير سياسية متعددة تضمنت جوانب دينية متزايدة الأهمية. إن فهم هذه التحولات يسهم في تبني رؤى جديدة للتعامل مع المستقبل السياسي والتعايش بين جميع مكونات المجتمع في المنطقة.
الآثار على الحياة اليومية والمشهد في قطاع غزة
يتجلى تأثير هذه الأيديولوجية في الحرب القائمة بقطاع غزة، والتي استمرت أكثر من ستة عشر شهرًا دون حافز واضح لإنهائها.
- تحويل المعالم: تسعى الرؤية الدينية المسيحية إلى تحويل قطاع غزة، الذي كانت فيه الحياة تنبض بالأمل، إلى أرض قاحلة تماشياً مع رؤية تحقيق “الخلاص”.
- الاستمرارية التاريخية للصراع: بالرغم من أن الحرب ليست جديدة بالكامل ولا قديمة تمامًا، فإنها تُعتبر استمرارًا لحرب 1947-1948 التي تأسست عليها مفاهيم السيطرة والسيادة على “أرض إسرائيل”.
- تأجيج الصراع الديني: يستخدم بعض التيارات اليمينية الدين كوسيلة لخلق مناخ من الرعب والتطرف؛ حيث يُنظر إلى أحداث غزة والمؤسسات الموجودة فيها على أنها جزء من مسار يؤدي نحو نهاية محددة وفق رؤية دينية متطرفة.
دور التصورات الدينية في تحريك الأجندة السياسية
تشير النظريات الدينية لبعض التيارات إلى أن فترة “الخلاص” قد حانت، وأنه من ضمنها حرب “يأجوج ومأجوج” التي ستُقام في جبل مجدو وفق ما جاء في “العهد الجديد”.
- الغاية النهائية: يسعى هؤلاء لأن يكونوا الفاعل المباشر في تغيير مجرى التاريخ، إذ يؤمنون بأنهم يجب عليهم التصرف استباقيًا لتقريب الخلاص، وهو ما يتضمن فرض سيادة يهودية عالمية.
- الآثار على الصراع: تُعتبر هذه الأفكار سببًا رئيسيًا وراء الفظائع التي تحدث في القطاع، حيث تُستغل الحرب كوسيلة لتطبيق خطط دينية وسياسية تهدف إلى تحويل الصراع إلى معركة أيديولوجية لها أهداف تفوق حدود السياسة التقليدية.
على الجانب الآخر، تُعتبر حركة “حماس” أرض فلسطين التاريخية وقفًا إسلاميًا. فهي تحارب من أجل تحرير الوقف بدافع ديني أصيل، مما يمثل وجهة نظر تختلف عن التيارات الدينية اليمينية التي تسعى لتحقيق رؤى أخرى مبنية على مفاهيم الخلاص والنهاية.
- الوقوف على الهوية الدينية: يُظهر خطاب “حماس” تأكيدًا على أن الأرض ليست مجرد كيان سياسي بل وقفًا دينيًا يجب الحفاظ عليه من أجل ضمان استمرارية الهوية والقيم الإسلامية.
- التبادل البنّاء: هذا التوجه يضفي بعدًا مختلفًا على الصراع، حيث ينادي بتوحيد الجهود من أجل تحرير الأرض بدلًا من الانغماس في صراعات أيديولوجية قد تؤدي إلى مزيد من الانقسامات والدمار.
يظهر التحليل أن الأفكار الدينية اليمينية— سواء من اليمين المسيحي الإنجيلي أو اليمين المسيحي اليهودي—تلعب دورًا كبيرًا في إعادة تشكيل السياسات والقضايا العسكرية في المنطقة. إذ يقوم هؤلاء على تصوير الحرب القائمة كخطوة نحو تحقيق “الخلاص” الذي من شأنه أن يُعيد رسم ملامح “أرض إسرائيل” وفقًا لأجندة دينية وسياسية متطرفة. وفي الوقت الذي يؤكد فيه أتباع هذه الرؤية على أن الحياة الآنية ضحية لصالح وعد بالحياة الآخرة، يبقى تأثير هذه الخطابات واضحًا على أرض المعاناة في قطاع غزة وعلى مستقبل علاقة الشرق بالغرب.