كان الإبداع والابتكار هما السلاح الذي استخدمه أهل غزة لتحسين حياتهم في الحرب وتجاوز ظلمة ليل بهيم، فبينما تقصف المباني وتدمر البنية التحتية، يصرّ الفلسطينيون على إبقاء شعلة الأمل مشتعلة عبر ابتكار وسائل جديدة تساعدهم على التكيف مع هذه الظروف القاسية.
رغم المعاناة العميقة التي يواجهها سكان غزة من قصف، تدمير، وحصار خانق، أثبت هؤلاء الأبطال أنهم قادرون على الإبداع وابتكار حلول تخفف عنهم وطأة الظروف.
مواقد الحياة في غزة: ابتكارات تواجه الحصار والحرب
لم تعد الحرب تقتصر على القصف والدمار، بل امتدّت إلى تفاصيل الحياة اليومية التي باتت أقرب إلى معركة بقاء، ومع شحّ غاز الطهو، وارتفاع أسعار الحطب، اضطر مئات آلاف الغزيين إلى البحث عن بدائل غير مألوفة لطهو طعامهم وتدفئة أسرهم.
ليست الابتكارات هنا ترفًا ولا خيارًا، بل ضرورة للنجاة، من بين هذه الضرورات التي فرضتها الظروف القاسية ظهرت مواقد الحياة التي تُبقي سكان غزة واقفين رغم كل محاولات السحق.
مع انقطاع الكهرباء لساعات طويلة، وشُحّ الوقود، اضطر الأهالي لاختراع مواقد جديدة للطهي، استخدموا الطين، وقطع الحديد القديمة، وحتى علب الطلاء الفارغة، لصناعة أفران يدوية تعمل على الحطب أو الفحم.
مواقد بدائية، لا ترقى بحجم التطور الذي يعيشه العالم خارج بقعة غزة، لا تنافس على أفران أوتوماتيكية تعمل لوحدها، لكنها تكفي لتكون رمزًا على أن الحياة مستمرة مهما اشتدت العتمة.
قام السكان بصناعة مواقد منزلية بسيطة من مواد محلية، مثل الطين، الحجارة، الحديد الصدئ، علب الطلاء الفارغة، وأجزاء السيارات التالفة لا شيء كان يُرمى؛ كل شيء يمكن أن يُعاد تدويره ليصبح أداة لبقاء الحياة.
كانت هذه المواقد تُستخدم في طهي الطعام وتسخين الماء وحتى التدفئة، خاصة في ليالي الشتاء القاسية.
البعض بنى مواقدًا من الطوب والحجارة في أفنية البيوت أو بين الأنقاض، والبعض الآخر حمل المواقد المتنقلة إلى الملاجئ والخيام، وعملت الكثير منها على الحطب أو الفحم أو الكرتون المحترق، وهي بدائل فرضها غياب الغاز والوقود.
تلك النار الصغيرة، التي كانت تتصاعد من هذه المواقد كانت كافية لتكون شهادة حية على أن الغزيّين يعرفون كيف يصنعون الحياة من الرماد كل موقد كان مقاومة، وكان الوهج الخارج منه يروي للعالم أن غزة لا تستسلم، بل تطهو يومها من رماد الأمس، لتشعل أمل الغد.
وارتفعت أسعار الحطب في غزة بشكل كبير منذ اندلاع الحرب، إذ بلغ سعر الكيلوغرام الواحد نحو سبعة شواكل، بعدما كان لا يتجاوز شيكل واحد قبل الحرب.
التدوير الذكي: من الأنقاض إلى الحياة
في غزة، لا يُنظر إلى الركام على أنه نهاية، بل بداية جديدة، فمع كل بيت يُدمَّر، ينهض أهله ليبحثوا بين الأنقاض عن أمل يمكن استخدامه من جديد لقد تحوّل الحطام إلى مصدر للمواد الخام، وولدت منه فكرة التدوير الذكي وهو أحد أبرز أشكال الابتكار الشعبي في وجه الحصار والدمار.
قطع الحديد التي كانت جزءًا من الأسقف المهدمة، والأبواب المتفحمة، وحتى إطارات النوافذ، أعيد تشكيلها لتُستخدم في صناعة مواقد، أسِرّة، أو هياكل للمأوى المؤقت أما الأنابيب البلاستيكية المكسّرة فقد تم تحويلها إلى قنوات لتجميع مياه الأمطار أو أدوات بسيطة للري الزراعي.
لم تتوقف محاولات التدوير عند المعدات، بل طالت حتى الألعاب واللوازم المدرسية، فحوّلت بعض العائلات بقايا القذائف إلى أقلام وألعاب خشبية، والملابس القديمة إلى حقائب مدرسية، كل شيء يُعاد استخدامه، ليس بدافع الحفاظ على البيئة فحسب، بل بدافع البقاء نفسه.
في مكانٍ يُحاصَر فيه كل شيء، يصبح التدوير أداة مقاومة، ووسيلة لإعادة بناء الحياة قطعةً قطعة، وما يظنه العالم “ركامًا لا قيمة له”، يراه الغزيّ موردًا ثمينًا لبناء الغد.
منذ مطلع شهر مارس الماضي، تمنع دولة الاحتلال دخول غاز الطهو إلى قطاع غزة، ما تسبب بأزمة خانقة أجبرت الأهالي على البحث عن بدائل.
غزة، التي أنهكها الحصار وأثقل كاهلها الدمار، لم تتوقف عن الحياة، تشتعل شرارة إبداع شعبي لا يعرف الاستسلام لم تكن الابتكارات الغزيّة مجرد محاولات تقنية، بل كانت صرخات حياة في وجه الموت البطيء، ومواقد أمل تضيء طريق الصبر والصمود.
أثب سكان غزة أن الاحتلال قد يحاصر الجغرافيا، لكنه لا يستطيع حصار العقول ما يحدث هناك ليس مجرد بقاء، بل تحدٍّ خلاق للواقع المفروض، ودرس للعالم في كيف يصنع الإنسان أدوات نجاته من حطام الواقع.
إن ما تنتجه غزة هو تعبير صادق عن كرامة الإنسان حين يُجبر على أن يخلق الحياة بيديه، ويصنع الكرامة من اللا شيء.
.