في غزة، حيث الموت يحلّق في الجو، والدماء تُراق يوميًا بفعل القصف والحصار، يصبح التبرع بالدم إجراء طبي، موقف أخلاقي وإنساني، وشكل من أشكال المقاومة الحية.
فينما تبدو هذه المبادرة بسيطة في أماكن أخرى من العالم، تحمل في غزة أبعادًا معقدة ومؤلمة، خاصة حين تقترن بسياق المجاعة وسوء التغذية الحاد.
ما أهمية التبرع بالدم في غزة في ظل الحصار والحرب؟
مع تزايد عدد الإصابات الناتجة عن القصف، وانهيار البنية التحتية الصحية، يصبح كل وحدة دم بمثابة فرصة حياة جديدة لمصاب في حالة حرجة أو طفل نُقل إلى المستشفى في الدقيقة الأخيرة.
نقص الإمدادات الطبية، وانقطاع الكهرباء، وصعوبة وصول المستلزمات من خارج القطاع، كلها تجعل بنوك الدم في وضع طارئ دائم.
وفي مثل هذا الواقع، لا يمكن الاعتماد إلا على أبناء غزة أنفسهم لتأمين ما يلزم من وحدات الدم، رغم معاناتهم الشخصية من الجوع وسوء التغذية والإجهاد النفسي.
أهمية التبرع بالدم هنا لا تكمن فقط في نتائجه الطبية، بل في رمزيته المجتمعية أيضًا، إنه فعل تضامن داخلي في وجه الإغلاق الخارجي، وشهادة على أن الحياة لا تزال تدبّ بين سكانٍ تُستهدف يوميًا أرواحهم.
أن يُقدِم الغزّي على التبرع رغم الجوع والإرهاق، هو إعلان واضح بأن العطاء لا يُقاس بما نملك، بل بمدى استعدادنا لتقاسم ما تبقى منّا مع من هو في أمسّ الحاجة إليه.
في العادة، يُطلب من المتبرع بالدم أن يكون في حالة صحية جيدة، أن يتناول طعامًا كافيًا قبل التبرع وبعده، أن يحصل على راحة، وسوائل، وحدّ أدنى من الاستقرار.
أما في غزة، فالمتبرع قد يكون صائمًا قسرًا منذ أيام، أو لم يتناول سوى وجبة واحدة خفيفة في اليوم، ومع ذلك، لا يتردد في مدّ ذراعه للممرضة، واضعًا كل ما تبقى في جسده من عناصر الحياة في كيس دم، ربما يذهب إلى طفل أصيب في الغارة، أو إلى امرأة نُقلت من تحت الأنقاض.
التحديات الصحية للتبرع بالدم في وقت المجاعة وسوء التغذية
أحد أبرز التحديات التي تواجه التبرع بالدم في غزة هو نقص العناصر الغذائية الأساسية، مثل الحديد والفيتامينات، التي تؤدي إلى فقر الدم (الأنيميا).
في ظل الظروف الصعبة، يعاني العديد من السكان من نقص حاد في هذه العناصر نتيجة لانقطاع الإمدادات الغذائية، عند التبرع بالدم في هذه الحالة، يزداد خطر تفاقم حالة فقر الدم لدى المتبرعين، مما يعرضهم للإرهاق الشديد والدوار، وقد يتسبب في حدوث مضاعفات صحية خطيرة.
إضافة إلى ذلك، يضعف سوء التغذية من قدرة الجسم على التعافي بعد التبرع بالدم، مما يزيد من صعوبة استعادة مستويات الدم الطبيعية.
ضعف الجهاز المناعي وزيادة خطر العدوى
عندما يتبرع الأفراد الذين يعانون من نقص غذائي بالدم، يصبحون أكثر عرضة للإصابة بالعدوى، خاصة في بيئة طبية قد لا تكون مثالية من حيث معايير النظافة والتعقيم، هذا يزيد من مخاطر الإصابة بأمراض إضافية، سواء أثناء عملية التبرع أو بعده.
جودة الدم المتبرع به وتأثيره على المرضى
من المشاكل الأخرى المرتبطة بالتبرع بالدم في غزة هو أن الدم المتبرع به قد لا يحتوي على العناصر الغذائية الأساسية مثل الهيموغلوبين، ما يجعله أقل فعالية في علاج المرضى، خاصة أولئك الذين يعانون من حالات طبية تحتاج إلى دم غني بالعناصر الأساسية لنقل الأوكسجين بشكل فعال.
هذا يعوق قدرة المستشفيات على تقديم العلاج المناسب للمرضى، سواء في حالات الإصابة جراء النزاع أو الأمراض الأخرى.
المخاطر اللوجستية وتحديات البنية التحتية
تعاني مراكز التبرع بالدم في غزة من مشاكل لوجستية كبيرة، حيث يواجه العاملون في هذه المراكز صعوبة في تخزين الدم بشكل آمن بسبب انقطاع الكهرباء المستمر.
يعتمد تخزين الدم على نظام تبريد فعال، وعندما تكون الكهرباء غير مستقرة، تتعرض وحدات الدم للتلف، مما يقلل من فعاليته.
إضافة إلى ذلك، قد تواجه هذه المراكز صعوبة في نقل الدم بين المستشفيات بسبب القيود المفروضة على التنقل عبر المعابر، مما يعقد الوصول إلى المناطق التي تحتاج إلى الدم بشكل عاجل.
التنسيق الدولي لتوفير الدعم الغذائي والطبي للمتبرعين
في ظل الأزمة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزة، يبرز الدور الحيوي للتنسيق الدولي في التخفيف من آثار المجاعة وسوء التغذية، خاصة فيما يتعلق بسلامة التبرع بالدم.
يتطلب ضمان توافر دم آمن وصحي تدخلًا مشتركًا من المنظمات الدولية، والجهات الإنسانية، ووزارات الصحة، لتأمين الدعم الغذائي والطبي اللازم للمتبرعين.
يمكن للمنظمات الإغاثية أن تلعب دورًا رئيسًا في توفير مكملات غذائية غنية بالحديد والفيتامينات الأساسية للأشخاص المؤهلين للتبرع، مما يسهم في رفع مستوى الصحة العامة وضمان عدم تعرض المتبرعين لمضاعفات صحية بعد التبرع.
كما يسهم التنسيق الدولي في توفير المستلزمات الطبية الأساسية مثل أكياس جمع الدم، أدوات الفحص السريع، ومعدات التبريد اللازمة لحفظ وحدات الدم بشكل آمن مع النقص الحاد في هذه المستلزمات داخل غزة بسبب الحصار، يصبح الدعم الخارجي ضرورة ملحّة.
من المهم توفير برامج تدريب ودعم للكوادر الطبية المحلية، لضمان تطبيق أفضل الممارسات في جمع وفحص الدم، خاصة في ظل الضغط الكبير على النظام الصحي بسبب النزاعات والظروف الاقتصادية المتدهورة.
وأخيرًا، يمكن للجهات الدولية المساهمة في إنشاء ممرات إنسانية آمنة لتسهيل دخول المعدات الغذائية والطبية إلى غزة، وتسهيل نقل الدم بين المراكز والمستشفيات، مما يعزز فعالية منظومة التبرع بالدم في ظل الأزمة.
إن التنسيق الفعّال بين الجهات المحلية والدولية لا يساهم فقط في إنقاذ حياة الجرحى والمرضى، بل يعزز صمود النظام الصحي في غزة ويضمن استمراريته في مواجهة واحدة من أشد الأزمات الإنسانية في العالم.