في قطاع غزة، لا تمثل المياه مصدرًا للحياة كما في بقية أنحاء العالم، بل أصبحت أحد أكبر التهديدات الوجودية لسكانه، وعلى رأسهم الأطفال.
في بقعة مكتظة بالسكان، ومعزولة منذ أكثر من 17 عامًا، تتحول أزمة المياه من مشكلة خدمية إلى كارثة إنسانية، تهدد صحة الإنسان وكرامته وحقه الأساسي في البقاء.
ويعاني أكثر من 97% من مياه الشرب في غزة من التلوث، بحسب تقارير أممية، ما يجعلها غير صالحة للاستهلاك البشري.
أسباب تفاقم أزمة المياه في قطاع غزة
تعاني غزة من أزمة مياه خانقة تُعد من أخطر الأزمات البيئية والإنسانية في المنطقة، وتعود أسباب تفاقمها إلى مجموعة من العوامل المعقدة والمتشابكة، في مقدمتها الاعتماد شبه الكامل على الخزان الجوفي الساحلي، الذي يُعد المصدر الوحيد للمياه في القطاع.
وقد تعرض هذا الخزان على مر العقود إلى الاستنزاف المفرط والتلوث، بسبب السحب الجائر للمياه وتسرّب مياه الصرف الصحي والمياه المالحة إليه.
إلى جانب ذلك، لعب الحصار الإسرائيلي المستمر منذ أكثر من 15 عامًا دورًا كبيرًا في منع دخول المعدات والمواد اللازمة لتحديث شبكات المياه والصرف الصحي أو إنشاء بنى تحتية جديدة.
كما أن العدوان المتكرر على غزة أدى إلى تدمير محطات الضخ والمعالجة وخزانات المياه، ما زاد من سوء الوضع.
وتفاقمت الأزمة نتيجة النمو السكاني السريع والكثافة السكانية العالية، إذ يعيش أكثر من مليوني شخص على مساحة صغيرة، مما يضع ضغطًا هائلًا على الموارد المحدودة.
كما تسهم التغيرات المناخية وشح الأمطار في تعقيد الأزمة وزيادة اعتماد السكان على مصادر ملوثة أو غير آمنة.
الاحتلال الإسرائيلي وتدمير البنية التحتية المائية
يعد الاحتلال الإسرائيلي أحد أبرز العوامل المساهمة في تعميق أزمة المياه في قطاع غزة، من خلال السياسات الممنهجة التي تستهدف البنية التحتية الحيوية، خاصة المتعلقة بالمياه خلال الحروب المتكررة والعدوان العسكري على القطاع.
دأب الاحتلال الإسرائيلي على قصف محطات معالجة المياه، وشبكات التوزيع، وخزانات التخزين، وآبار المياه، مما أدى إلى حرمان مئات الآلاف من السكان من حقهم الأساسي في الوصول إلى مياه نظيفة.
علاوة على ذلك، يفرض الاحتلال قيودًا صارمة على إدخال المواد والمعدات اللازمة لإصلاح البنية التحتية أو بناء منشآت جديدة، مما يجعل أي محاولة لإعادة تأهيل المنظومة المائية تواجه صعوبات جمة.
وتُضاف إلى ذلك التحكم الإسرائيلي بالموارد المائية في الضفة الغربية، والتي تُعد جزءًا من الحوض المائي المشترك، حيث يُمنع الفلسطينيون من الاستفادة العادلة منها، مما يزيد العبء على قطاع غزة المعزول.
تُظهر هذه السياسات المتعمدة أن الاحتلال لا يكتفي بالحصار العسكري والاقتصادي، بل يستخدم المياه كسلاح، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، مما يجعل أزمة المياه في غزة ليست مجرد مشكلة بيئية، بل قضية سياسية وإنسانية بامتياز.
تلوث مصادر المياه الجوفية وتدهور نوعية المياه
تُعد المياه الجوفية المصدر الرئيسي للمياه في قطاع غزة، إلا أن هذا المصدر الحيوي يعاني من تلوث واسع النطاق وتدهور متسارع في جودته يعود ذلك إلى عدة أسباب، أبرزها تسرب مياه الصرف الصحي غير المعالجة إلى الخزان الجوفي بسبب ضعف البنية التحتية.
بالإضافة إلى تسرب مياه البحر المالحة إلى المياه الجوفية نتيجة الإفراط في الضخ، مما أدى إلى ارتفاع نسب الملوحة بشكل خطير.
أكثر من 97% من مياه الآبار في غزة غير صالحة للشرب وفقًا لمعايير منظمة الصحة العالمية، حيث تحتوي على نسب مرتفعة من النيترات والكلوريدات، ما يعرض السكان لمخاطر صحية جسيمة، خاصة الأطفال وكبار السن.
كما أن غياب أنظمة فعالة لمعالجة المياه يترك المواطنين أمام خيارين كلاهما مر: إما شراء المياه من مصادر خاصة بأسعار مرتفعة، أو استخدام مياه ملوثة لأغراض الشرب والطهي.
هذا التلوث لا يهدد فقط الصحة العامة، بل يؤثر أيضًا على الزراعة والأمن الغذائي، إذ يؤدي استخدام المياه المالحة والملوثة إلى تراجع إنتاجية الأراضي الزراعية وتدهور التربة.
فتدهور نوعية المياه في غزة لم يعد مجرد مشكلة بيئية، بل أزمة صحية ومعيشية شاملة تهدد استقرار الحياة في القطاع المحاصر.
ارتفاع ملوحة مياه الشرب وتأثيرها على الصحة العامة
إن ارتفاع ملوحة مياه الشرب في قطاع غزة أحد أخطر مظاهر أزمة المياه المتفاقمة، حيث تسجل مياه الآبار الجوفية نسب ملوحة تتجاوز بكثير الحدود التي تسمح بها منظمة الصحة العالمية.
يعود هذا الارتفاع إلى تسرب مياه البحر إلى الخزان الجوفي نتيجة السحب المفرط وغير المنظم، إلى جانب تلوث المياه بمصادر الصرف الصحي والأسمدة الزراعية.
تأثير هذه المياه المالحة على الصحة العامة مقلق للغاية، إذ يؤدي استهلاكها إلى مشكلات صحية مزمنة، أبرزها أمراض الكلى، وارتفاع ضغط الدم، واضطرابات الجهاز الهضمي، فضلاً عن التأثير السلبي على نمو الأطفال وتطورهم البدني والعقلي.
كما ترتبط ملوحة المياه بزيادة معدلات تسوس الأسنان وهشاشة العظام نتيجة نقص المعادن الأساسية في المياه أو اختلال توازنها.
وتضطر غالبية السكان إلى شراء مياه محلاة من محطات خاصة بأسعار تفوق قدرتهم المادية، ما يزيد من العبء الاقتصادي على الأسر الفقيرة ويؤدي في كثير من الأحيان إلى تقليل الكميات المستهلكة، وهو ما يُعرض الجسم للجفاف وسوء التغذية.
إن استمرار الاعتماد على مياه مالحة وغير آمنة يُمثل تهديدًا مباشرًا للصحة العامة في غزة، ويستدعي تدخلًا عاجلًا من المجتمع الدولي لدعم مشاريع التحلية وتحسين جودة المياه.
دور المؤسسات الدولية والإغاثية في التخفيف من الأزمة
في ظل التدهور الحاد، تلعب المؤسسات الدولية والإغاثية دورًا محوريًا في محاولات التخفيف من حدة الأزمة، رغم التحديات الميدانية والسياسية.
وقد قامت منظمات مثل الأمم المتحدة، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، ومنظمات غير حكومية دولية، بتنفيذ مشاريع تهدف إلى تحسين الوصول إلى مياه نظيفة، من خلال إنشاء محطات تحلية صغيرة، وترميم شبكات المياه المتضررة، وتوزيع خزانات المياه على الأسر الفقيرة.
كما تعمل هذه الجهات على تقديم الدعم التقني والمادي للبلديات، وتوفير مواد تعقيم وتطهير المياه، بالإضافة إلى تنفيذ برامج توعية صحية للسكان حول ترشيد استهلاك المياه والوقاية من الأمراض المرتبطة بتلوثها.
رغم هذه الجهود، تبقى تدخلات المؤسسات الدولية محدودة مقارنة بحجم الاحتياجات الهائلة في القطاع، وغالبًا ما تواجه قيودًا من سلطات الاحتلال على إدخال المعدات والمواد، ما يعطل تنفيذ المشاريع الحيوية.
ومع ذلك، فإن وجود هذه المؤسسات يشكل شريان حياة لكثير من العائلات الغزية، ويُبقي على الأمل بوجود دعم خارجي يساند الفلسطينيين في معركتهم اليومية من أجل الحياة.
صرخة استغاثة من غزة: هل من أمل في الأفق؟
في غزة، حيث أصبح الحصول على ماء نظيف حلمًا يوميًا، ترتفع صرخات الاستغاثة من سكان يعيشون تحت وطأة الحصار والجفاف والتلوث، في بيئة أصبحت فيها الحياة الكريمة شبه مستحيلة.
مئات الآلاف من الأطفال يكبرون وهم لا يعرفون طعم الماء النقي، والمرضى يواجهون مضاعفات صحية خطيرة نتيجة تلوث المياه، والمزارعون يراقبون أراضيهم تجف وتموت أمام أعينهم. في ظل هذه الكارثة الإنسانية، يتساءل سكان القطاع هل من أمل في الأفق؟
ورغم قتامة المشهد، لا تزال بعض المبادرات والمشاريع تمثل بارقة أمل، مثل توسعة محطة التحلية المركزية بدعم دولي، ومبادرات الطاقة الشمسية لتشغيل مضخات المياه، ومشاريع التوعية المجتمعية لترشيد الاستهلاك.
كما أن الضغط المتزايد من مؤسسات حقوق الإنسان والمجتمع المدني على المجتمع الدولي، قد يسهم في دفع الدول المانحة إلى الاستثمار في بنية تحتية مائية مستدامة.
لكن يبقى الأمل الحقيقي مرهونًا بإنهاء الحصار، ورفع القيود المفروضة على قطاع غزة، والاعتراف بحق سكانه في العيش بكرامة وأمان مائي فصرخة غزة ليست مجرد نداء من أجل الماء، بل هي صرخة من أجل الحياة.